'آخر البحر'.. مسرحية تدمج الأسطورة بالواقع العربي
في عالم يسوده التناقض، يأتي المسرح كنافذة تفتح آفاقًا للتفكير العميق في قضايا الإنسان وتحدياته الوجودية والاجتماعية، حيث انطلقت مساء الجمعة 27 ديسمبر، سلسلة جديدة من العروض لمسرحية "آخر البحر"، بقاعة الفن الرابع، من إخراج الفاضل الجعايبي وإنتاج المسرح الوطني التونسي بالشراكة مع مركز الفنون بجربة.
هذه المسرحية التي تتنقل بسلاسة بين أسطورة "ميديا" وأحداث الواقع العربي الراهن، تقدم تجربة درامية فريدة تستحق التأمل.
مسرح المعنى ومساءلة الإنسان
تتخذ المسرحية من الأسطورة الإغريقية "ميديا"، التي قتلت ابنيها انتقامًا من خيانة زوجها جازون، نقطة انطلاق، ولكن الجعايبي لا يتوقف عند حدود الماضي، بل يعيد صياغة الحكاية، ناقلاً "ميديا" إلى الحاضر، حيث تواجه قسوة الواقع العربي.
من بلاد الإغريق القديمة إلى عالمنا المليء بالفوضى، تطرح المسرحية سؤالًا فلسفيًا عميقًا: "من يحاكم من؟". ميديا، التي كانت رمزًا للتمرد والغضب، تجد نفسها الآن في مواجهة عدالة البشر المتناقضة.
وتسلط المسرحية الضوء على الصراعات النفسية والاجتماعية، حيث يصبح الإنسان ذاته متهمًا وقاضيًا في آن واحد.
شخصيات في مرآة الواقع
تتقاطع قصة "عاتقة"، بطلة المسرحية التي أدتها ببراعة صالحة النصراوي، مع مأساة "ميديا".
عاتقة، القادمة من اليمن الذي تحول من "سعيد" إلى "تعيس"، تهرب من عائلتها بحثًا عن حياة أفضل مع حبيب تونسي، لكن خيبات الأمل تطاردها، لتكشف هشاشة أحلام الهروب والانعتاق في مجتمعات تتقاذفها الحروب والانقسامات.
ويتنقل النص ببراعة بين أبعاد شخصية عاتقة وواقعها الأليم، محاكياً قضايا مثل الحريات الفردية، زواج القاصرات، العنف الأسري، الهجرة غير النظامية، وفساد القضاء والسلطة.
قوة التمثيل وسحر الركح
لم تكن المسرحية مجرد سرد لقصة درامية، بل كانت لوحة فنية متكاملة، بدءً من السينوغرافيا والإضاءة التي صممها الجعايبي، وصولاً إلى الموسيقى التصويرية التي أبدعها أحمد بنجامي.
هذه العناصر الفنية حولت النص إلى تجربة حسية غنية، نقلت الجمهور إلى عوالم متعددة، بين الواقع والخيال. التصميم الفني الدقيق الذي قدمه فريق العمل، إلى جانب الأداء التمثيلي الرائع من صالحة النصراوي ومحمد شعبان وريم عيّاد وغيرهم، جعل من المسرحية تجربة عاطفية وفكرية عميقة.
المسرح في مواجهة الواقع
في تصريح خاص لموزاييك، تحدث أسامة الجامعي، المكلف بالتنسيق الفني والتقني، عن استمرارية المسرح في مواكبة الواقع، قائلا: "رغم البرد وآخر العام، الجمهور متعطش للمسرح، هذه المسرحية جذبت الناس لأنها تتناول قضايا تمس حياتهم مباشرة."
وأضاف الجامعي أن النصوص المسرحية التي تواكب الأحداث تستطيع أن تأسر الجمهور لأنها تمس أوتارًا حساسة في نفوسهم، وهنا تكمن قوة المسرحية في أنها تتغير مع الأحداث، اليوم، هناك قضايا لم تكن موجودة حين بدأنا العرض، لكنها أصبحت ذات صلة الآن، هذا هو سحر المسرح كل عرض يحمل قراءة جديدة للواقع."
وعن استمرارية العروض، أشار الجامعي إلى أن " الجمهور في الجهات الداخلية يطالب بمزيد من الفرص لمشاهدة المسرحية، ونحن نحاول تقديم هذه التجربة في مختلف المناطق، لأن المسرح وسيلة لفهم الأزمات التي يعيشها الإنسان. كلما ازدادت الأزمات، ازدادت أهمية المسرح كمنصة للحوار."
وفي حديثه عن التأثير المجتمعي للمسرحية، قال اسامة الجامعي: "اليوم، المسرح يعيد النظر في قضايا مثل الحريات والعنف والهجرة. ما يحدث على الركح هو محاولة لقراءة العالم من زاوية فنية تعيد صياغة أسئلتنا عن الإنسانية والعدالة."
رحلة في العمق الإنساني
ما يجعل "آخر البحر" استثنائية ليس فقط طرحها الجريء للقضايا، بل قدرتها على تحويل الأسطورة إلى أداة لاستنطاق الحاضر. حيث تساءلت المسرحية عن دور الفن في مواجهة الوحش الساكن فينا، وكيف يمكنه أن يعيد صياغة الأسئلة حول الإنسانية والعدالة.
يبقى المسرح، كما تظهر "آخر البحر", ساحةً حرةً للتعبير والحوار، حيث تُطرح القضايا في أبهى تجلياتها الفنية والفكرية.
في ظل الأزمات التي تعصف بالعالم العربي، تأتي هذه المسرحية كتذكير بأن الفنون ليست مجرد ترف، بل وسيلة لفهم الذات ومساءلة العالم. و"آخر البحر" ليست مجرد عمل مسرحي إنها دعوة مفتوحة للتأمل والتغيير.
صلاح الدين كريمي